من قصة سيدنا موسي وقومه

«قال سعيد: حدثني ابن عباس أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة، وهو يوم عاشوراء، فلما اجتمعوا في صعيد، قال الناس بعضهم لبعض: انطلقوا فلنحضر هذا الأمر {لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين} [الشعراء: 40] يعنون موسى وهارون - استهزاء بهما، فقالوا: يا موسى - لقدرتهم بسحرهم - {إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين} [الأعراف: 115] قال: بل ألقوا {فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون إنا لنحن الغالبون} [الشعراء: 44] فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة، فأوحى الله تبارك وتعالى إليه {أن ألق عصاك} [الأعراف: 117] فلما ألقاها صارت ثعبانا عظيما فاغرة فاها، فجعلت العصي بدعوة موسى تلبس بالحبال حتى صارت جرزا إلى الثعبان تدخل فيه، حتى ما أبقت عصا ولا حبلا إلا ابتلعته، فلما عرف السحرة ذلك قالوا: لو كان هذا سحرا لم يبلغ من سحرنا هذا، ولكنه أمر من أمر الله تبارك وتعالى آمنا بالله وبما جاء به موسى ونتوب إلى الله عز وجل مما كنا عليه، وكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه، وأظهر الحق




{وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين} [الأعراف: 118] وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه، وإنما كان حزنها وهمها لموسى فلما طال مكث موسى لمواعيد فرعون الكاذبة، كلما جاءه بآية وعده عندها أن يرسل بني إسرائيل، فإذا مضت أخلف مواعيده، وقال: هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا، فأرسل الله عليه وعلى قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه، ويوافقه أن يرسل معه بني إسرائيل، فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده، حتى أمر بالخروج بقومه، فخرج بهم ليلا، فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا، أرسل في المدائن حاشرين، يتبعهم بجنود عظيمة كثيرة، فأوحى الله إلى البحر أن إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفرق اثني عشر فرقا حتى يجوز موسى ومن معه، ثم التق على من بقي بعده من فرعون وأشياعه، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا فانتهى إلى البحر وله قصيف مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيا فلما تراءى الجمعان وتقاربا، قال قوم موسى {إنا لمدركون} [الشعراء: 61]



افعل ما أمرك ربك، فإنك لن تكذب ولن تكذب، فقال: وعدني إذا أتيت البحر أن يفرق لي اثني عشر فرقا حتى أجاوزه، ثم ذكر بعد ذلك العصا، فضرب البحر بعصاه فانفرق له حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى، فانفرق البحر كما أمره ربه، وكما وعد موسى، فلما أن جاوز موسى وأصحابه كلهم، ودخل فرعون وأصحابه التقى عليهم كما أمر الله، فلما أن جاور موسى البحر قالوا: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق فلا نؤمن بهلاكه، فدعا ربه، فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه، ثم مروا على قوم يعكفون على أصنام لهم {قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون} [الأعراف: 138] قد رأيتم من العبر، وسمعتم ما يكفيكم، ومضى فأنزلهم موسى منزلا، ثم قال لهم: أطيعوا هارون، فإني قد استخلفته عليكم وإني ذاهب إلى ربي، وأجلهم ثلاثين يوما أن يرجع إليهم ، فلما أتى ربه أراد أن يكلمه في ثلاثين وقد صامهن ليلتين ونهارهن، كره أن يكلم ربه ويخرج من فمه ريح فم الصائم، فتناول موسى شيئا من نبات الأرض فمضغه، فقال له ربه حين أتاه أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان، قال: رب كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح، قال: أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك، ارجع حتى تصوم عشرا ثم ائتني ففعل موسى ما أمر به، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم للأجل، قال: ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم، فقال: إنكم خرجتم من مصر ولقوم فرعون عوار وودائع ولكم فيها مثل ذلك، وأنا أرى أن تحتسبوا مالكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة ولا عارية، ولسنا برادين إليهم شيئا من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيرا وأمر كل قوم عندهم شيء من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد عليه النار فأحرقه، فقال: لا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري رجلا من قوم يعبدون البقر جيران لهم، ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضي له أن رأى أثرا، فأخذ منه قبضة، فمر بهارون، فقال له هارون: يا سامري، ألا تلقي ما في يدك وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك، قال: هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، فلا ألقيها بشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيها أن يكون ما أريد فألقاه، فدعا له هارون، وقال أريد أن أكون عجلا، فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد فصار عجلا أجوف ليس فيه روح له خوار ، قال ابن عباس: ولا والله ما كان له صوت قط، إنما كانت الريح تدخل من دبره وتخرج من فيه، وكان ذلك الصوت من ذلك، فتفرق بنو إسرائيل فرقا، فقالت فرقة: يا سامري، ما هذا؟ فأنت أعلم به، قال: هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق، وقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه، وإن لم يكن ربنا، فإنا نتبع قول موسى، وقالت فرقة: هذا عمل الشيطان وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم التصديق بما قال السامري في العجل، وأعلنوا التكذيب به، فقال لهم هارون: {يا قوم إنما فتنتم به، وإن ربكم الرحمن} [طه: 90] ليس هكذا، قالوا: فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوما ثم أخلفنا، هذه أربعون قد مضت، فقال سفهاؤهم: أخطأ ربه فهو يطلبه ويتبعه فلما كلم الله موسى وقال له ما قال أخبره بما لقي قومه من بعده، {فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} [طه: 86] فقال لهم ما سمعتم في القرآن {وأخذ برأس أخيه يجره إليه} [الأعراف: 150] وألقى الألواح، ثم إنه عذر أخاه واستغفر له، وانصرف إلى السامري، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ قال: قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت عليكم فقذفتها {وكذلك سولت لي نفسي قال فاذهب فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس وإن لك موعدا لن تخلفه وانظر إلى إلهك الذي ظلت عليه عاكفا لنحرقنه ثم لننسفنه في اليم نسفا} [طه: 96] ولو كان إلها لم تخلص إلى ذلك منه فاستيقن بنو إسرائيل، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون، وقالوا جماعتهم لموسى: سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها فتكفر ما عملنا، فاختار قومه سبعين رجلا لذلك لإتيان الجبل ممن لم يشرك في العجل، فانطلق بهم ليسأل لهم التوبة فرجفت بهم الأرض، فاستحيا نبي الله من قومه ووفده حين فعل بهم ما فعل، فقال {رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} [الأعراف: 155] وفيهم من كان الله اطلع على ما أشرب من حب العجل إيمانا به فلذلك رجفت بهم الأرض، فقال {رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل} [الأعراف: 156]

 فقال: رب سألتك التوبة لقومي فقلت: إن رحمتك كتبتها لقوم غير قومي، فليتك أخرتني حتى تخرجني حيا في أمة ذلك الرجل المرحومة، فقال الله عز وجل له: إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم كل من لقي من والد وولد فيقتله بالسيف لا يبالي من قتل في ذلك الموطن، ويأتي أولئك الذين خفي على موسى وهارون ما اطلع الله عليه من ذنوبهم واعترفوا بها، وفعلوا ما أمروا به فغفر الله للقاتل والمقتول، ثم سار بهم موسى متوجها نحو الأرض المقدسة وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف، فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون إلى الجبل والأرض والكتاب بأيديهم وهم ينظرون إلى الجبل مخافة أن يقع عليهم، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا فيها مدينة فيها قوم جبارون خلقهم خلق منكر، وذكروا من ثمارهم أمرا عجيبا من عظمها، فقالوا: {يا موسى إن فيها قوما جبارين} [المائدة: 22] لا طاقة لنا بهم، ولا ندخلها ما داموا فيها {فإن يخرجوا منها فإنا داخلون} [المائدة: 22] {قال رجلان من الذين يخافون} [المائدة: 23] الجبارين آمنا بموسى، فخرجا إليه، فقالا: نحن أعلم بقومنا، إن كنتم إنما تخافون مما ترون من أجسامهم وعدتهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم، فادخلوا عليهم الباب {فإذا دخلتموه فإنكم غالبون} [المائدة: 23]

 ويقول ناس: إنهما من قوم موسى، وزعم عن سعيد بن جبير أنهما من الجبابرة آمنا بموسى، يقول: {من الذين يخافون} [المائدة: 23] إنما عنى بذلك الذين يخافهم بنو إسرائيل {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24] فأغضبوا موسى فدعا عليهم وسماهم فاسقين ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم، حتى كان يومئذ، ‌فاستجاب ‌الله ‌له فسماهم كما سماهم موسى فاسقين، وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل لهم ثيابا لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهورهم حجرا مربعا، وأمر موسى فضربه بعصاه {فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا} [البقرة: 60] في كل ناحية ثلاثة أعين، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها لا يرتحلون من منقلة إلا وجد ذلك الحجر فيهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس . رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وصدق ذلك عندي، أن معاوية، سمع ابن عباس، حدث هذا الحديث فأنكره عليه أن يكون الفرعوني هذا الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل، قال: فكيف يفشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك وشهده، فغضب ابن عباس، وأخذ بيد معاوية فذهب به إلى سعد بن مالك الزهري فقال: يا أبا إسحاق، هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتله من آل فرعون الإسرائيلي أفشى عليه أم الفرعوني؟ فقال: إنما أفشى عليه الفرعوني بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد ذلك وحضره 

‌‌[حكم حسين سليم أسد] : رجاله ثقات»

مسند أبي يعلى 5/ 21 ت حسين أسد

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الدروس المستفادة من الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة

خلق الصبر في ضوء الكتاب والسنة

حق الكد والسعاية