خلق الصبر في ضوء الكتاب والسنة

 بسم الله الرحمن الرحيم

خلق الصبر في ضوء الكتاب والسنة

ملخص المقال

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

فإن من أفضل الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المؤمن هي صفة الصبر، فالصبر مفتاح كل خير ومنجاة من كل شر وهم وغم. وقد ورد الثناء على الصبر وأهله في آيات كثيرة من القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة.

والصبر هو ضبط النفس عند مصائب الدهر، وحبسها على مكاره الطبع امتثالاً لأمر الله تعالى وابتغاء مرضاته. وهو ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله وصبر علي الاقدار.

فالصبر على طاعة الله يتمثل في المداومة على أداء العبادات والطاعات مع مشقتها ومجاهدة النفس عليها، مثل أداء الصلوات في أوقاتها والصيام في شهر رمضان وحج بيت الله الحرام ونحو ذلك. أما الصبر عن معصية الله فيتمثل في كف النفس عن ارتكاب المعاصي وترك الشهوات المحرمة والبعد عن مواطن الفتن وسائر المنهيات وصبر علي الاقداريتمثل في الرضي بقضاء الله وقدره وعدم التسخط بأقوال أو أفعال لا ترضي الله عزوجل عند نزول المصائب.

والصبر من صفات الأنبياء والصالحين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.

كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الصبر عند أول صدمة". وإنما فضل الصبر في مقام الشدة والنوائب، إذ هناك يظهر صدق التوكل على الله والرضا بقضائه.

وللصبر فوائد عظيمة في الدنيا والآخرة، فهو سبب لنيل ثواب الله ورحمته ورضاه، ودخول الجنة، وكفارة السيئات، ومحو الذنوب، ورفع الدرجات.

قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وقال صلى الله عليه وسلم: "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة".

ومن أمثلة الصابرين أيوب عليه السلام الذي صبر على البلاء والمرض، ويعقوب عليه السلام الذي صبر على فقدان ابنه يوسف عليه السلام، والسيدة آسية بنت مزاحم زوجة فرعون التي صبرت على العذاب منه، وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي صبر على أذى قريش.

والمؤمن مأمور بالصبر على جميع ما يصيبه من بلاء في دينه أو دنياه أو أهله أو ماله. وعليه أن يحتسب الأجر عند الله، ويرجو العاقبة للمتقين. قال تبارك وتعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ ﴿١٢٧﴾ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ}.

وكلما اشتدت الشدائد وتوالت المحن والفتن، كلما كان الصبر أهم وأفضل للمؤمنين.

المقدمة:

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وإمام الصابرين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. قال تعالى: "ولقد خلقنا الإنسان في كبد"، آية جليلة اختصرت حقيقة الحياة التي جبلت على الأكدار والأقذار، وفي هذه إشارة ولفتة من المولى جل في علاه إلى هذا المخلوق الضعيف من أجل أن يدرك ويتبصّر، حتى إذا ما استقر في خلده ذلك صبر على نكباتها وتقلباتها، التي ما كادت تدني الفرد حتى تقصيه.

لهذا فإن الصبر من أفضل الأخلاق وأعظم السجايا التي ينبغي للمسلم أن يتحلى بها. إنه سمة الأنبياء والصالحين والصادقين، وبه تتحقق مرضاة الله عز وجل، وتنال درجات الجنة.

تعريف الصبر

الصبرُ لغةً اسم مشتق من الفعل صَبَرَ، وهو في اللغة الصبر ويعني الحبس وصَبْرُ الشيء يعني حبسه، ويقال: حبس الرجل الشيء بمعنى صبره، ويشتق منها أيضاً اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى وهو الصبور، وهي صفة قد تطلق أيضاً على الإنسان فيقال رجل صبور وفتاة صبور دون فرق بين التذكير والتأنيث.

 أما في الاصطلاح فهو يعني حبس النفس عن كل ما لا يحبه الله ولا يرضاه، من جزع أو شكوى أو سخط أو ما سواها، وهو في حقيقته حمل النفس على ما تكره.

أهمية الصبر

"والصبر ضياء"؛ ينير الله به دروب الحائرين، ويهدي به صراطه المستقيم.

 الصبر عونٌ على دوام الطاعة، ولزوم العبادة والاستقامة.

الصبر عُدّة المسلم في مجاهدة النفس على ترك الذنوب والخطايا، الصبر عزاء المسلم عند نزول الكروب وحلول البلايا

لولا الصبر لغرق المهموم في همومه، ولضاق الحزين ذرعًا بأحزانه وغمومه. الصبر طريق المجد وسبيل المعالي، وكل الناجحين في الدنيا إنما حقّقوا آمالهم بالصبر؛ استمرؤوا الْمُرّ، واستعذبوا العذاب، واستهانوا بالصعاب. وما فات لأحدٍ كمال إلا لضعف في قدرته على الصبر والاحتمال.

وإذا كانت الدنيا لا تُنال إلا بالصبر، وهي لا تعدل عند الله جناح بعوضة؛ فكيف بالجنة التي عرضها السماوات والأرض، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

جَمَّلَ اللهُ -تَعَالَى- بِالصبر المُرْسَلِينَ، وَأَمَرَ بِهِ خَاتَمَ النبيين (وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِالله) [النحْل: 127] (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوْ الْعَزْمِ مِنَ الْرُّسُلِ) [الْأَحْقَاف:35]، (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) [الطور: 48].

أمر به المؤمنين؛ فقال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا) [آل عمران 200].

أثنى على أهله؛ فقال -تعالى-: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة: 177].

أخبر بمحبته للصابرين؛ فقال -تعالى-: (وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146]. وبمعيَّتِه لهم؛ فقال -تعالى-: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال 46].

وإذا كانت مرارة الدواء يعقبها الشفاء، فقد رتَّب الله على الصبر عظيم الجزاء، فقال جل من قائل: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]

قرن الله الصبر بالقيم العليا في الإسلام، قرنه بالتقوى؛ فقال -تعالى-: (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) [آل عمران: 186].

وقرنه بالشكر؛ فقال -تعالى-: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم: 5].

وقرنه باليقين؛ فقال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24].

وقرنه بالتوكل؛ فقال -تعالى-: (نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت: 58، 59].

وقرنه بالصلاة؛ فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة: 153].

وقرنه بالاستغفار والتسبيح؛ فقال: (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) [غافر: 55].

ذلكم بعض القول عن أهمية الصبر وفضله، وضرورته الشرعية والدنيوية؛ فاعرفوا قدره وعظّموا أمره تسعدوا وتفلحوا في الدنيا والآخرة، واصبروا إن الله مع الصابرين، وأستغفر الله، والحمد لله رب العالمين (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].

 

 ومادة (صبر) وردت في القرآن في ثلاثة ومائة موضع (103)

 جاءت في واحد وأربعين موضعاً بصيغة الاسم، من ذلك قوله عز وجل)واستعينوا بالصبر والصلاة( البقرة:45

وجاءت في اثنين وستين موضعاً بصيغة الفعل، من ذلك قوله سبحانه) يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} (آل عمران:200)

 وأكثر ما جاءت مادة (صبر) بصيغة الفعل الماضي المفرد، حيث تكررت تسع عشرة مرة، منها قوله تعالى)واصبر على ما أصابك} (لقمان:17)

 وتكررت بصيغة جمع المذكر السالم ثماني عشرة مرة، منها قوله سبحانه)إن الله مع الصابرين) (البقرة:53)

 وتكررت بصيغة المبالغة أربع مرات، منها قوله عز وجل)إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} خُتمت بها أربع آيات: (إبراهيم:5) (لقمان:31) (سبأ:19) (الشورى:33(

وروي عن الإمام أحمد قوله: "ذكر الله تعالى الصبر في القرآن في نحو من تسعين موضعاً، وهو واجب بإجماع الأمة. وهو نصف الإيمان؛ فإن الإيمان نصفان: نصف صبر، ونصف شكر".

وذكر أهل العلم أن لفظ (الصبر) ورد في القرآن الكريم على خمسة معان، هي:


(الصبر) بمعنى حبس النفس على المكروه، ويقابلها الجَزَع، وأكثر ما جاء في القرآن وَفْق هذا المعنى، من ذلك قول الباري سبحانه (والصابرين على ما أصابهم} (الحج:35). ومنه أيضاً قوله عز وجل(قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} (إبراهيم:21). ونحوه قوله تعالى (إنا وجدناه صابرا ((ص:44)

 الصبر بمعنى الصوم، من ذلك قول الباري سبحانه)واستعينوا بالصبر والصلاة} (البقرة:45) قال مجاهد: )الصبر) في هذه الآية: الصوم، ومنه قيل لرمضان: شهر الصبر، فجاء الصوم والصلاة على هذا القول في الآية متناسباً في أن الصيام يمنع من الشهوات، ويزهد في الدنيا. وليس بحسب هذا المعنى غيرُ هذه الآية.

الصبر بمعنى الجرأة، من ذلك قول الباري تعالى)فما أصبرهم على النار} (البقرة:175) قال الحسن وقتادة وابن جبير وغيرهم: ما لهم والله عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار! وهي لغة يمنية معروفة. ونُقل عن الكسائي أن خصمين اختصما إليه، فوجبت اليمين على أحدهما، فحلف، فقال له صاحبه: ما أصبرك على الله؟ أي: ما أجرأك عليه. والمعنى: ما أشجعهم على النار؛ إذ يعملون عملاً يؤدي إليها.

الصبر بمعنى الرضا والتسليم بقضاء الله سبحانه، من ذلك قول الباري عز وجل)واصبر لحكم ربك( (الطور:48) أي: ارض بقضاء الله لك، ولا تضجر ولا تتذمر. ومثله قوله عز من قائل(فاصبر لحكم ربك} (القلم:48) أي: اصبر لقضاء ربك، و(الحكم) هنا: ما قضاه الله على عبده.

(الصبر) بمعنى الثبات على الشيء، من ذلك قول الباري سبحانه(أن امشوا واصبروا على آلهتكم) (ص:6) أي: اثبتوا على عبادة آلهتكم، قال ابن عاشور: "حرف على} يدل على تضمين )اصبروا( معنى: (اعكفوا، واثبتوا، فحرف {على} هنا للاستعلاء المجازي، وهو التمكن، مثل {أولئك على هدى من ربهم( )البقرة:5) وليس هو حرف (على) المتعارف تعدية فعل (الصبر) به في نحو قوله)اصبر على ما يقولون( )المزمل:10)". ووفق هذا المعنى أيضاً قوله تعالى)إن كاد ليضلنا عن آلهتنا لولا أن صبرنا عليها( )الفرقان:42) المقصود تفاخرهم بتصلبهم في دينهم، وثباتهم عليه، وأنهم كادوا أن يتبعوا دعوة الرسول بما يلقيه إليهم من الإقناع والإلحاح، فكان تأثر أسماعهم بأقواله، يوشك بهم أن يرفضوا عبادة الأصنام، لولا أنهم تريثوا، وثبتوا على عبادتهم لآلهتهم

 

فضل الصبر

إن للصبر أهمية وفضل عظيم، فقد وردت العديد من النصوص في القرآن الكريم، والسنة النبوية، وآثار سلف الأمة وعلمائها تدل على جزاء الصبر وأهميته،

وفيما يأتي بيانها:

فضائل الصبر في القرآن الكريم

من فضائل الصبر التي ذكرها الله -سبحانه وتعالى- في كتابه العزيز ما يأتي:

 مضاعفة أجر الصابرين

 قال الله -تعالى-: (أُولَـئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).[١٥]

إن الله -سبحانه وتعالى- علق النصر بالصبر والتقوى

 قال الله -تعالى-: (بَلى إِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ).[١٦]

أخبر الله -سبحانه وتعالى- أن ملائكته تسلم على الصابرين في الجنة بصبرهم

 قال الله -تعالى-:(جَنّاتُ عَدنٍ يَدخُلونَها وَمَن صَلَحَ مِن آبائِهِم وَأَزواجِهِم وَذُرِّيّاتِهِم وَالمَلائِكَةُ يَدخُلونَ عَلَيهِم مِن كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيكُم بِما صَبَرتُم فَنِعمَ عُقبَى الدّارِ).[١٧]

فضائل الصبر في السنة النبوية

وردت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم العديد من الأحاديث في فضل الصبر وأهميته، ومن تلك الأحاديث ما يأتي: الصبر دليل على قوة الإيمان

 فعن صهيب بن سنان -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له).[١٨]

الصبر باب لتكفير السيئات

 فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ).[١٩]

 

 

الصبر يزيد المسلم قربًا من الله- تعالى-

 فعن سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- قال: (سُئِلَ النبيُّ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- : أَيُّ الناسِ أَشَدُّ بلاءً؟! قال: الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى الرجلُ على حَسَبِ دِينِهِ؛ فإن كان في دينِهِ صُلْبًا اشتَدَّ بلاؤُهُ، وإن كان في دينِهِ رِقَّةٌ هُوِّنَ عليه، فما يَزالُ كذلك، حتى يَمْشِيَ على الأرضِ ما له من ذنبٍ).[٢٠]

 

فضائل الصبر في آثار سلف الأمة وعلمائها

نقل عن سلف الأمة وعلمائها جملة من الآثار التي تبين منزلة الصبر وفضله، وفيما يأتي أهم هذه الآثار: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "وجَدْنَا خَيْرَ عَيْشِنَا الصَّبْرَ".[٢١]

عن إبراهيم التيمي -رحمه الله- قال: "ما من عبد وهب الله له صبرًا على الأذى، وصبرًا على البلاء، وصبرًا على المصائب، إلا وقد أوتي أفضل ما أوتيه أحد بعد الإيمان بالله".[٢٢]

عن علي بن أبي طالب -كرم الله وجهه- قال: "بني الإسلام على أربع دعائم، على اليقين، والصبر، والجهاد، والعدل".[٢٣]

وبناء على ذلك؛ نستنتج أن الصبر يعود على صاحبه بالعديد من الثمرات المتعلقة بالدنيا والآخرة، لذا فقد وردت النصوص العديدة التي تحث عليه في القرآن والسنة وأقوال السلف

فوائد الصبر

الثمرات اليانعة التي يجنيها أهل الصبر.

‌‌

أولا: وهي الثمرة العظمى، والحسنة الكبرى: الفوز بمعية الله تعالى قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [البقرة]. وقال تعالى: {واصبروا إن الله مع الصابرين} [الأنفال]. قال أبو علي الدقاق: «فاز الصابرون بعز الدارين لأنهم نالوا من الله معيته».

‌‌

ثانيا: الصبر سبب في مضاعفة الأجر .. ويكفي في ذلك بشارة قوله تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} [الزمر].

قال سليمان بن القاسم: «كل عمل يعرف ثوابه إلا الصبر قال تعالى: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} قال: كالماء المنهمر»

‌‌

ثالثا: الصبر سبب في نيل الإمامة في الدين. قال تعالى: {وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون} [السجدة].

قال الإمام ابن القيم: «فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين».

‌‌

خامسا: الصبر سبب في تحصيل الفلاح. قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} [آل عمران].

 

سادسا: الصبر عون وعدة. قال تعالى: {استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين} [البقرة] فمن لا صبر له عون له.

‌‌

سابعا: جمع الله تعالى للصابرين ثلاثة أمور لم يجمعها لغيرهم وهي: الصلاة منه عليهم ورحمته لهم وهدايته إياهم. قال تعالى: {وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} [البقرة: 157].

عزى بعض السلف على مصيبة نالته، فقال: «مالي لا أصبر وقد وعدني الله على الصبر ثلاث خصال كل خصلة منها خير من الدنيا وما عليها».

‌‌ثامنا: ضمان النصر على الأعداء. قال تعالى: {بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين} [آل عمران].

‌‌

تاسعا: سلام الملائكة على الصابرين في الجنة بصبرهم. قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب  سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار} [الرعد]

 

عاشرا: الصبر مفتاح الفرج ومنجاة من الهم والغم، قال تعالى: {وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا}.

 

حادي عشر: الصبر يرفع الدرجات في الجنة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد أصابته مصيبة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها". 

 

ثاني عشر: الصبر يمنح العون والتوفيق والنصر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}

 

أقسام الصبر

أنواع الصبر قسّم العلماء الصبر إلى ثلاثة أنواع

وفيما يأتي بيان مفصل لكل نوع

الصبر على الطاعة

 وهو الصبر على أداء العبادات التي فرضها الله -سبحانه وتعالى- على عباده والدوام عليها؛ لأن النفس بطبعها تميل إلى الشهوات، قال الله - سبحانه وتعالى-: (وَأمُر أَهلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصطَبِر عَلَيها لا نَسأَلُكَ رِزقًا نَحنُ نَرزُقُكَ وَالعاقِبَةُ لِلتَّقوى). ( طه : 132 )

فيجب على المسلم أن يعود نفسه على الصبر في ثلاثة مواضع:

 الأول: صبر قبل الطاعة بإخلاص النية لله، والتبرؤ من شوائب الرياء

 الثاني: الصبر حال القيام بالطاعة، فيحرص المسلم على أدائها على أكمل وجه مشروع متّبعاً ما بينه الرسول - صلى الله عليه وسلم-.

الثالث: الصبر بعد أداء الطاعة، فلا ينظر لنفسه بعين العجب، وحب الثناء؛ لئلا يحبط عمله ويبطل أجره.

  ولم يكن صبر النبي صلى الله عليه وسلم مقتصراً على الأذى والابتلاء ، بل شمل صبره على طاعة الله سبحانه وتعالى حيث أمره ربّه بذلك في قوله : { فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل } ( الأحقاف : 35 ) ، فكان يجتهد في العبادة والطاعة حتى تتفطّر قدماه من طول القيام ، ويكثر من الصيام والذكر وغيرها من العبادات ، وإذا وكان شعاره في ذلك : أفلا أكون عبدا شكورا ؟

الصبر عن المعصية الصبر

وهو الصبر عما نهى الله -سبحانه وتعالى- عنه من المعاصي والمحرمات، ومجاهدة النفس عن الاقتراب منها، قال الله -تعالى- في بيان عاقبة الصبر عن المعصية: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى).

قال ابن القيم سمعت شيخ الاسلام يقول كان صبر يوسف عن مطاوعة امراءة العزيز أكمل من صبره علي إلقاء إخوته له في الجب وبيعه وتفريقهم بينه وبين أبيه فإن هذه الامور جرت عليه بغير إختياره فليس للعبد فيها حيلة غير الصبر وأما صبره عن المعصية فصبر إختيار ومحاربة ومجاهدة للنفس

الصبرعلى المحن والمصائب

وهو الصبر على ما يقدره الله -سبحانه وتعالى- على عباده من كوارث مفجعة، ومصائب مؤلمة؛ كفقد عزيز، أو زوال الصحة وغيرها من الابتلاءات، ولقد وصف الله -تعالى- عباده الصابرين بقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).[٩] ووعد الله -تعالى- عباده الصابرين بالأجر العظيم، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: إنَّ اللَّهَ قالَ:(إذا ابْتَلَيْتُ عَبْدِي بحَبِيبَتَيْهِ -يريد عينيه-، فَصَبَرَ؛ عَوَّضْتُهُ منهما الجَنَّةَ).[١٠] وبناء على ذلك، نستنتج أن العلماء قسموا الصبر إلى ثلاثة أنواع: الصبر على الطاعة، والصبر على ترك المعصية، والصبر على المحن والمصائب.

نماذج من صبر الصالحين:

- صبر أيوب عليه السلام على المرض وفقدان الأهل والمال. 

- صبر يوسف عليه السلام علي إمراءة العزيز و على السجن بظلم.

- صبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على أذى قريش.

- صبر سيدنا علي والصحابة رضي الله عنهم في المعارك.

- صبر السلف الصالح على الزهد والعبادة وترك الشهوات.

بلال بن رباح رضي الله عنه يعذبه أهل الكفر بأنواع العذاب وهو رضي الله عنه لا يزيد على قوله: أحد .. أحد .. ويسلمونه إلى ولدانهم فيطوفون به شعاب مكة، ويوالون عليه العذاب، وهو لا يزيد على: أحد .. أحد! !

وها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مجلس وفيه بلال وخباب بن الأرت رضي الله عنهم، فيسأل عمر بلالا عما لقى من المشركين، قال خباب: «يا أمير المؤمنين انظر إلى ظهري».

فقال عمر: «ما رأيت كاليوم! ».

قال خباب: «أوقدوا لي نارا فما أطفأها إلا ودك ظهري».

فما أصدق علي رضي الله عنه يوم أن وقف على قبر خباب رضي الله عنه فقال: «رحم الله خبابا لقد أسلم راغبا، وهاجر طائعا، وعاش مجاهدا، وابتلى في جسمه أحوالا، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملا».

ويطالعنا أخي من صبر السابقين صبر عروة بن الزبير رضي الله عنهما فقد ابتلى رحمه الله في نفسه وولده فصبر ورضي، مات ابنه محمد، وأصابت رجله الأكلة، فقطعوها له، فما زاد أن قال رحمه الله: «إن سلبت فلطالما أعطيت، وإن أخذت فلطالما أبقيت، وأبقيت لنا فيك الأمل».

واعجب من الأحنف بن قيس: رحمه الله ذهبت عينه فقال: «ذهبت منذ أربعين سنة ما شكوتها إلى أحد! » وكان يقول:

وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما … تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحمك


سادساً: وسائل مساعدة على الصبر

 

من الوسائل المعينة على الصبر والمثابرة:

 

- كثرة ذكر الله والاستعانة به سبحانه

 

- التأمل في ثواب الصابرين وعاقبة الجزعين

 

- مجالسة الصابرين والاقتداء بهم

 

- توقع المكاره قبل وقوعها ليسهل تحملها

 

- تذكر نعم الله تعالى لتخفف المصائب

 

- الاعتصام بالقرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

فهذه بعض الوسائل المعينة على تحصيل خلق الصبر وامتلاك روح المثابرة وعدم اليأس.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

حق الكد والسعاية

الدروس المستفادة من الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة